يوم القدس العالميّ

أبعاده وآثاره في الرأي العام الإسلامي

( نظرة إلى موقف المرجعيّة الدينية منه )

إعداد

مخلـــــص الزامـــــــل

أكاديمي وباحث في الشأن الإسلامي

يوم القدس العالمي .... أبعاده وآثاره في الرأي العام الإسلاميّ 

منذ عام 1978 م اتخذت القضية الفلسطينية بعداً ثالثاً في درجات الإدراك والتفاعل، فبعد أن خرجت من حيّزها العربيّ الذي جعل دائرة الصراع على أرض فلسطين الحبيبة يتسم بالسمة القومية والتي كانت تصف الصراع بأنه بين العرب بنحو عام واليهود كأمة تؤمن بالانتماء الديني بالدرجة الأساس ، وكانت صفة ذلك الصراع في المحافل الدولية كلها تؤكد البعد القومي له .

    ان الجيوش التي قاتلت اليهود في أحايين متفرقة من عقود القرن العشرين كانت عربية وهي جيوش المملكة المصرية  ومملكة الأردن ومملكة العراق وسورية ولبنان والمملكة العربية السعودية ضد المليشيات الصهيونية المسلحة في فلسطين، بعد انتهاء الانتداب وانسحاب الجيش البريطاني سنة 1948م، ثم تبعتها حروب وصراعات أخرى في العامين 1967، و 1973، اللتان أفرزتا ما يسمى باتفاقية السلام مع الكيان الغاصب ، ومنذ ذلك الحين عمَّ السكون مشهد المواقف العربيّة التي أكتفت بالتنديد والاستنكار بأصوات خجولة ومخجلة في الوقت نفسه على الرغم من تجدد دائرة الصراع على الحدود اللبنانية حتى صيف عام 2006. وقد كانت وسائل الإعلام العربي تتفاعل بشكل يوميّ مع مجريات الاحداث على الساحة الفلسطينية وترصد الانتهاكات الشرسة التي تطال الأبرياء ولكن من دون مواقف  تنسجم معها من قبل الحكومات العربيّة بل إننا نجد الشعوب أكثر تأثراً من حكوماتها، وهذا ما أنعكس طيلة عمر القضية الفلسطينية على ملامح التوثيق الأدبي والتاريخي، إذ ظهر غرض جديد من اغراض الأدب سمي بأدب المقاومة. 

     أما البعد الآخر فهو الاستهجان العالمي لمواقف الصهاينة في التهجير والتنكيل والقتل والحبس من الفلسطينيين أولئك الذين دفعوا الغالي والنفيس من أجل هويتهم العربيّة الإسلامية المسالمة ، فاتسمت مواقف الشعوب والمجتمعات الدولية بالنزعة الإنسانية  بإزاء ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من جرائم إبادة سُجِّلت في حينها الأخطر من نوعها في العالم مما ادى إلى اتخاذ قرارات في مجلس الأمن والهياة العامة للأمم المتحدة لوقف الإنتهاكات الإنسانية في أرض فلسطين ولكن من دون إلتزام عصابات الكيان الغاصب التي كانت تتستر بالعباءة الأميركية بدعم اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية، ولم تخلُ بعض المواقف الرافضة لسياسات الصهاينة من وجود فئة ضئيلةٍ من يهود العالم  كانت تطلق صيحات الرفض بدوافع إنسانية أو غير ذلك، ولكن بقيت الأصوات تتقد وتخبو تبعاً لمجريات الأحداث.

جاء عام 1978م بثورة الشعب الإيرانيّ المسلم بقيادة روح الله الخميني (رضوان الله تعالى عليه) على حكومة  الشاه التي كانت تمثل الشرطيّ المطيع لإرادات الغرب بأجنداته المتقاربة والتي تهدف لتغيير خارطة العالم ليكون طوع قبضتها . وسرعان ما نبهت هذه الثورة العظيمة بقيادتها الرمزية الدينية إلى البعد الحقيقي للصراع مع الكيان الصهيوني وقد كنا نرصد من ذلك الحين من خلال شاشات التلفزيون الإيرانيّة التعبئة الجماهيرية في رفض الوجود الصهيوني إذ وجه رضوان الله عليه في ذلك الحين بقوله : "وإنني أدعو المسلمين في جميع أنحاء العالم لتكريس يوم الجمعة الأخيرة من هذا الشهر الفضيل من شهر رمضان المبارك ليكون يوم القدس، وإعلان التضامن الدولي من المسلمين في دعم الحقوق المشروعة للشعب المسلم في فلسطين "، وقد كان موقف السيد الإمام منسجماً تماماً مع مواقف المرجعيّات الدينية الأخرى وتوجهاتها ، لذلك وجدت دعوتها أصداءها بنحوٍ لافت في استجابة الشعوب العربيّة والإسلاميّة فاجتاحت تظاهرات الرفض للوجود السرطانيّ الغاصب عواصم الدول الإسلاميّة ومدنها وأقيمت المحافل التي تتكفل بجمع الكلمة على موقف موحد أمام التحديات التي تحيق بالمنطقة الإسلاميّة وقد لفتت هذه الممارسة الأنظار إلى حقيقة البعد الإسلامي للقضية الفلسطينية والنظر للقدس الشريف أنه يشكل عقدة في بارزة في الضمير الإسلامي بكونه مهبط الرسالات ومهد النبوات وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. وعلى الرغم من الخلط والتشويه الذي يحاول الكيان الغاصب بان يجعل نفسه ودولته الوريث الوحيد للديانات التي تعاقبت على الأرض المقدسة والتي يشخص على ربواتها المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله .

القدس عاصمة الوحدة الإسلامية 

تتوحد الآمال والآلام والمواقف من تلقاء نفسها حينما تحوم حول تلك القبة الذهبيّة لِتُؤمِّنَ عليها تكبيرات المسجد الاقصى ؛ لذلك نجد أن أنظار المسلمين عموماً تتجه صوب هذه القبة المباركة التي تضم صخرة المعراج الشريف لتقرأ مأساة شعبٍ تعرّض لأعتا حرب إبادة وتهجير وتنكيل. أدت إلى تُحملَ صورة القدس وسورتها إلى شتى أصقاع العالم . ويؤكد ذلك السيد الشهيد الصدر الثاني إذ قال في الخطبة الثانية والثلاثين ما يأتي:

" الشعور بالوحدة والتضامن مع الثورة الفلسطينية المجيدة التي كانت ولازالت تعطي سيل الشهداء انتصاراً للحق المغتصب واحتجاجًا على الظلم المكثّف، والإجحاف الحقيقي الموجود في تلك البلاد المسلمة من قبل مستعمريهم اليهود والملاحظ بوضوح أن فكرة الثورة الفلسطينية قد مرت ميدانياً بتطور وتكامل ملحوظ فبينما كانت عند بدئها فكراً علمانياً دنيوياً لا يريد أكثر من إزالة الحكم الغاشم الظالم في بلاده ولا يفكّر في البديل وفي شكل الدولة الجديدة التي يسعى من أجلها حتى كان أكثرهم شيوعيين في زمن وجود ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي وكان بعضهم يميل على الديمقراطية الرأسمالية ، وبالتالي كانوا مختلفين وليس لهم هدف محدد وحقيقي،  إلا انهم تطوروا بكل تأكيد مع تطور الفكر الإسلامي العالمي ، فأصبح أكثرهم او الإتجاه الأكثر فيهم إتجاهاً إسلامياً دينياً لطيفاً ، جزاهم الله خير جزاء المحسنين ، وأصبحوا يجاهدون ويُستشهَدون حقيقة في سبيل الله ومضادةً لأعداء الله ،وذلك بعد ان اتسعت التجارب الدينية وازدادت الكتب الدينية ، و وسائل الإعلام الإسلامية فرأى الجيل المتأخر منهم أن الحق الصحيح إنما هو في الدين ، وإن الحل الصحيح إنما هو في الدين ، وليس من المعقول أن اليهود يحاربوننا كيهود ونحن نحاربهم كعرب ، أو كشيوعيين ، او كرأسماليين ، وإنما يقابل اليهودية الإسلامُ ليس إلا . – ثم يردف رضوان الله عليه – والإسلام هو دين الشهادة ودين الآخرة ، ودين العدل ، ودين الجهاد ، وليس في المسالك الأخرى ذلك، والاتجاهات الفكرية الأخرى ليس فيها إلا الخداع والضلال ، فنحن نعلن من هنا تأييداً لمجمل الحركة الفلسطينية والثورة الفلسطينية ونخص بالتأييد منهم اولئك الذين يشعرون بمسؤوليتهم الإسلاميّة وعاطفتهم الدينية وهم الأعم الأغلب على ما اعتقد ، وننصح الباقين منهم إلى ان يميلوا إلى هذا الطريق ، ويلتفتوا إلى الدين الحق ، فيصلحوا بذلك دنياهم وآخرتهم ، ولا تغرنَّهم الشعارات البرّاقة التي لا تفيد في الواقع إلا الإبقاء على إسرائيل وقوتها كما ثبت ذلك ولازال يثبت بالتجارب المستمرة ،, هذا ولو استطعنا من موقعنا ان نمد الثورة الفلسطينية بالفكر أولاً وبالمال والرجال ثانياً بالشكل الذي نضمن ان فيه رضا الله سبحانه وتعالى فعلنا ..... ومن الواضح دينيّاً أن الثورة الفلسطينية وغن كانت هي ثورة الشعب الفلسطينيّ إلا انها ثابتة في ذمم المسلمين جميعاً بمختلف مذاهبهم واتجاهاتهم و دولهم لكي يكونوا يدا واحدةً متعاونين دوماص على الفعالية والجهاد ضد اعداء الله والإسلام كما ورد في الحديث الشريف : (المسلمون يسعى بذمتهم ادناهم وهم يدٌ على من سواهم ) ." وماهذا الحديث إلا تثبيتاً للتضامن مع الشرعية التي تنبع من أصالة الأرض وما يحيا على وجهها وذلك كله مدعاة للجهاد في سبيلها لدعم قوّة وعظمة شوكة الإسلام بإزاء المتربصين به من أرباب الديانات المنسوخة التي لا تريد الاعتراف بالحق والمشروعية الإلهية التي ُشرَّعت بنصوص مترابطةٍ قبل أن تحرَّف من بعد مواضعها، وقد تنبّه الشهيد الصدر إلى ان قوى البغي والضلال تتكالب كل حين لتنال من وجود الإسلام والأمة الإسلامية لذلك كانت يصف القوى التي تدعم وتدير هذا الصراع بالثالوث المشؤوم وكان يشرحه بقوله : "وهو الاستعمار الاسرائيلي – الأمريكي – البرطاني ( قبَّحه الله )" ، وهذه إشارة إلى ان العدو المشترك متحدٌ في خططه وتوجهاته ، وما بقي للأمة الإسلامية إلا أن تتحد هي الأخرى  لمواجهة الخطر الثالوثيّ المحدق بها .

   إن هذه لمحة مضيئة للموقف الإسلامي تجاه هذا الموسم الشريف الذي يدعونا كل سنة للوقوف صفاً واحداً متحداً لرفض هذا الكائن الغريب ، بل وكل الأنظمة التي تنتهج نهجه في القمع والتنكيل بالشعوب المطالبة بحقوقها في الحرية والكرامة والحياة الآمنة المطمئنة الكريمة .... والله من وراء القصد ........... مخلص الزامل